لمن لا يعرف محافظة الدقهلية، أو مدينة المنصورة تحديداً، أود توضيح أمر على قدر كبير من الأهمية، وهو أن هذه المدينة تتميز عن غيرها من عواصم المحافظات، ومنذ عقود طويلة، ببعض الجماليات المعمارية، نتيجة جهود واضحة للمسؤولين السابقين بالطبع، وفى مقدمة هذه الجماليات مسجد النصر، الذى يعانق من مسافة قريبة المبنى الأكثر حضوراً، وهو ديوان عام المحافظة، ثم بعد ذلك مبنى قصر الثقافة، وعدد كبير من الفيلات والمبانى الأثرية، ربما لوقوع معظمها على فرع النيل الفاصل بين مدينتى طلخا والمنصورة، حيث تمتد على شاطئيه الأندية، التى حرمت المواطنين هناك من الماء والهواء، إلا أن وجود أجزاء من الكورنيش مازالت كاشفة، أضفت على المدينة رونقاً وبهاءً منقطعى النظير.
طوال الوقت كان مبنى الديوان العام ملاذاً لمواطنى المحافظة، الأكثر كثافة سكانية بعد القاهرة «ما يقرب من سبعة ملايين نسمة» ذلك أنه كان يضم بخلاف معظم إدارات السلطة التنفيذية، المجلس الشعبى المحلى، فكان يتردد عليه التنفيذيون، والشعبيون، والمواطنون من كل فج عميق، ذلك أن المحافظة مترامية الأطراف، من جمصة على البحر المتوسط، حتى حدود الغربية فى وسط الدلتا، والشرقية وكفرالشيخ ودمياط، ناهيك عن أنها المحافظة الأكثر إنتاجاً فى مجال الزراعة، والأكثر رواجاً اقتصادياً وتجارياً، والأكثر تصديراً للعمالة بالخارج، ومن ثم الأكثر ضخاً للعملات الأجنبية من مجمل تحويلات تلك العمالة.
لسنا هنا أيضاً بصدد حصر أعلام المنصورة من الراحلين، الذين كانوا دائمى الإشادة بجمال مدينتهم، وليس آخرهم الراحل أنيس منصور، والشيخ محمد متولى الشعراوى، والشيخ جاد الحق على جاد الحق، ونصر الدين طوبار، وسيد النقشبندى، والدكتور أسامة الباز، والباشا فؤاد سراج الدين، وأحمد لطفى السيد، وأحمد حسن الزيات، ومحمد التابعى، ومحمد حسين هيكل، ونعمان عاشور، والمهندس إبراهيم شكرى، وعبداللطيف البغدادى، وصلاح نصر، وسعد الدين وهبة، ومن الفنانين الراحلين: أم كلثوم، زكريا الحجاوى، رياض السنباطى، فاتن حمامة، حسن الإمام، حسن فايق، كمال الشناوى، يونس شلبى، أما من هم على قيد الحياة فحدث ولا حرج.
حينما نتحدث عن محافظة الدقهلية، فنحن أمام تاريخ يبدأ منذ ما قبل معركة لويس التاسع عشر، التى دارت رحاها هناك عام ١٢٥٠ بين القوات الصليبية، بقيادة ملك فرنسا آنذاك «لويس التاسع عشر»، الذى تم أسره فى هذه المعركة، والقوات الأيوبية، بقيادة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وفارس الدين أقطاى، وركن الدين بيبرس، والتى أسفرت عن هزيمة الصليبيين هزيمة كبرى منعتهم من إرسال حملة صليبية جديدة إلى مصر.
ولا ينتهى التاريخ مع المنصورة فى ١٤ أكتوبر ١٩٧٣، الذى شهدت سماؤها خلاله، أطول معركة جوية فى التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، مع الطيران الإسرائيلى، الذى حاول تدمير قواعد الطائرات فى الدلتا، بكل من المنصورة وطنطا والصالحية، لكى يحصل على التفوق الجوى، إلا أن الطائرات المصرية خاضت حينذاك معركة بطولية تابعها أبناء المنصورة بالعين المجردة، وأصبح ذلك اليوم عيداً سنوياً للقوات الجوية المصرية.
المنصورة كما هو واضح شاهدة على كل العصور، فى كتب التاريخ، كما فى خرائط الجغرافيا، كما فى السياسة، والثقافة، والفن، والصحافة، والدين، والشعر، والأدب، المنصورة حاضرة فى الاقتصاد، كما فى التجارة، والصناعة، والمال، والأعمال، المنصورة أكثر حضوراً فى الطب، والتعليم، والعلم، والعلماء، نيل المنصورة، أبراجها الشاهقة، تراثها المعمارى، حضارة وثقافة أبنائها، كل ذلك يؤهلهم لأن يكونوا طرفاً يتم وضعه فى الاعتبار حين اتخاذ أى قرار بشأن المدينة أو المحافظة ككل، فى غياب مجالس شعبية، كان من المفترض أن يكون هذا دورها.
أردتُ من خلال كل هذا السرد، وبحكم أننى من أبناء الدقهلية، الاعتراض وبشدة على ذلك القرار الذى أصدره المحافظ هناك من تلقاء نفسه، دون الرجوع إلى أى استطلاعات رأى، ببناء سور طويل عريض وعازل حول مبنى المحافظة، بما يحجبه عن الناس شكلاً ومضموناً، وهو القرار الذى وجد استنكاراً شعبياً غير مسبوق، إلا أنه بدا أن حالة شبه الدولة قد امتدت إلى هذه المحافظة الآمنة، لذا لم يأبه المحافظ بذلك الاستنكار، ذلك أنه ليس من أبناء المحافظة فلا يدرى عن تاريخها شيئاً، بل بدا أنه لم يقرأ حتى عن ذلك التاريخ، لذا أراد، بمحض إرادته، عزل نفسه عن المواطنين، بدلاً من أن يفعل العكس.
على أى حال، ما أكثر المحامين من أبناء الدقهلية، الذين يمكنهم اللجوء إلى القضاء لوقف هذا العبث، فى الوقت الذى نضع فيه القضية أمام المهندس شريف إسماعيل، رئيس الوزراء، على أمل التوجيه بوقف هذا البذخ الغريب فى وطن يدعى الفقر، أو هكذا هو بالفعل، أو على الأقل إرجاء هذا الشطط إلى أن تكون هناك مجالس شعبية محلية، يمكنها دراسة الموضوع من كل جوانبه، لاتخاذ ما تراه صالحاً للمواطن، وليس ما هو صالح للمزاج الشخصى للمحافظ، الذى سوف يغادر مكتبه إن عاجلاً أو آجلاً، مخلفاً وراءه حاجزاً خرسانياً سوف تتكلف إزالته الكثير بعد ذلك، بقرار تنفيذى أيضاً، ذلك أن أى محافظ طبيعى فى المستقبل لن يقبل بمثل ذلك العزل.
