مرات كثيرة جلست فيها على طاولتي محاولا سرد قصتي و باءت محاولاتي بالفشل ربما لعدم قدرتي على تحمل ما فيها من شجون و آلام يعصران قلبي ويجعلان دموعي تنهمر رغماً عني ولكني في هذه المرة قاومت نفسي وكتبت ما يضيق به صدري لعل ذلك يخفف حِمل قلبي .
بدأت قصتي منذ زمن بعيد حينها كنت طفلا صغيرا لم يتعدى عمره الخامسة وبينما كنت ألهو في بيت جدي أو كما نسميه بيت العائلة حيث تقيم فيه أسرتي وأسرة عمي خرجت أمي فرحة مهللة من إحدى الغرف وهي تحمل بين يديها مولود صغير ملفوفا بشال أبيض تناديني وهي تنحني للأمام حتى تقرب المولود الجديد مني وتكشف عن وجه ملائكي وتطلب مني أن أقبل عروستي ابنة عمي وعلى الرغم من صغر سني شعرت بأحساس أصبح ملازما لي حتى حدث ما حدث .
شعرت أن هذه الفتاة التي لم تفتح عيناها بعد هي ملكا لي وحدي و أنها دنياي القادمة و الحب الذي سأحيا به حتى مماتي ، و منذ ذلك الحين أصبحت كما ولو كنت حارسها الخاص الذي يبعد عنها الاذى ولكن الحقيقة أنني كنت أبعد عنها كل ما كنت أستشعر الخوف منه ويثير الغيرة بنفسي ، وكلما كبرنا زاد جمالها و تعلقي بها و حصاري عليها وكم من مرة زادت حدتي في التعامل معها وكانت كطفلة تقابل هذه التصرفات بالاستغراب وعدم الاستيعاب حتى بلغت سن الإدراك بدأت تصرفاتي تضايقها وتثير حنقها وكنت أستشعر الغيظ الذي تكتمه في نفسها مني ومحاولاتها الفرار من حصاري حتى أتت اللحظة التي غيرت حياتي.
كنت حينها قد تخرجت من الجامعة والتحقت بالخدمة العسكرية و بعد مرور عدة شهور استطعت الحصول على اجازة طويلة بعض الشيء ، فخرجت من وحدتي ولَم يشغل بالي طوال الطريق الى قريتي سوى وجهها وعند وصولي وأثناء دخولي بيت العائلة متلهفا لرؤيتها وجدتها تجلس في الحديقة متألقة مع أبن خالتها بمفردهما و يتحدثان بطريقة أثارت حفيظتي ، فتوجهت نحوهم و أنا أنظر اليها بغضب شديد حتى وصلت اليهم فوجدت الكلمات الغاضبة تخرج من فمي بدون رقيب لها وللرجل فما كان منها الا أنها صاحت في وجهي ووبختني بكلام عنيف لم اعتده منها كانت نهايته انها طلبت مني عدم الاقتراب منها مرة أخرى ، وأن التزم حدودي معها بصفتي ابن عمها فقط لا أكثر من هذا ، إنعقد لساني و لم أستطع الرد عليها بل أنسحبت بهدوء غريب أثار استغرابي فيما بعد عندما اختليت بنفسي الغاضبة أفكر فيما حدث وكم ضايقني أنني لم أعنفها على تصرفها معي وحاولت جاهدا أن أُهدأ مؤكدا لنفسي بأنها ستتراجع وتدرك خطئها وستأتي معتذره وعندئذ سوف أؤنبها عما بدر منها وأسامحها وكم كنت غبيا .
مرت عدة أيام ولَم يتبقى من أجازتي سوى يومين ولَم تأتي ولَم أراها مطلقا كما ولو كانت تتحاشى لقائي فثارت مخاوفي وشعرت للمرة الاولى بأني مُعرض لفقدها فما كان منى الا أني ذهبت لأبي و أخبرته برغبتي في الزواج منها فصمت لحظات ثم نظر لي بعطف وأخبرني بأنه تم خطبتها الى ابن خالتها ، فجلست على أقرب مقعد لي و تدفقت دموعي فأقترب مني وضمني اليه وطلب مني التماسك واعتبارها أخت لي وأعاد الحق علي لأني لم أطلبها من قبل فأبعدته عني برفق وذهبت لحجرتي وأعددت حقيبتي وسافرت مباشرة إلى وحدتي العسكرية يملئني الغضب والحقد وتحول تعلقي بها الى كره شديد لها و لخطيبها ولكل من له علاقة بها .
وظللت بوحدتي رافضا نزول الأجازات حتى لا أراها و خلال هذه الفترة علمت بأنها تزوجت وانتقلت للعيش في بيت زوجها بقرية قريبة من قريتنا تمنيت لها السوء كنت أدعو الله أن يفشل زواجها وتُطلق وتُرمى ذليلة مكسورة مملؤةبالحسرة والندم على تركها لي ، انتهت خدمتي الالزامية وأضطررت للعودة الى بيت العائلة، لم أمكث فيه طويلا حيث ألتحقت بأول عمل ظهر لي وحمدت الله أنه يقع في المدينة فقمت بأستئجار شقة على الرغم من رفض أبي لذلك ورغبته بأقامتي بجواره ولكني تمسكت بقراري بحجة قربها من عملي وبمجرد فرشها أنتقلت للعيش بها وأنقطعت زيارتي للقرية تماما ومن خلال زيارات أبي و أمي لي كنت أعرف أخبارها وكم كان يؤلمني معرفتي بأستقرار أحوالها و بطيبة زوجها والسعادة التي يغمرها بها .
مرت عدة أعوام كانت هي قد أنتهت من دراستها الجامعية بمساعدة زوجها ورزقها الله ولدين كثيري الشبه بها كما وصفتهم أمي التي اعتادت الضغط علي في زياراتها المتكررة كي اتزوج و ، وتحت ضغط أبي و أمي تزوجت من إحدى الفتيات والتي أدركت من الْيَوْمَ الاول لزواجنا بأن قلبي ليس لها ولكنه مشغول بمن كسرته فكيفت حياتها على ذلك وتفانت في خدمتي و إسعادي ورزقني منها الله بالبنت والولد و أنشغلت أنا في حياتي وبتربية أبنائي و أصبحت أموري مستقرة وبالكاد لم أعد أفكر فيها ، عدد الزيارات التي قمت بها لبيت العائلة خلال هذه الأعوام تكاد تُعد على أصابع اليد الواحدة وكنت أتحاشى فيها لقاء عمي أو أي فرد من أسرتها حتى رِن هاتف منزلي وكان الجانب الاخر صوت أبي الذي طلب مني الحضور الى القرية بأسرع وقت ممكن فسألته عن أمي و أخوتي فطمأني عليهم فركبت سيارتي والقلق يكاد يقتلني وتوجهت اليهم مباشرة .
عندما وصلت كان أبي وعمي في أنتظاري بمجرد رؤيتي انهار عمي باكياً فوقفت مستغربا الموقف ونظرت الى أبي الذي أخبرني بأن ابنة عمي شعرت فجاءة بالآلام الشديدة وبتوقيع الكشف عليها اكتشفوا انها تعاني مرض مزمن بالكلى وتحتاج الى نقل كلى او تموت وأن الجميع أجرى تحليلات ، ولكنها لم تتوافق معها ولَم يبقى في العائلة الا أنا ، كلماته كانت بمثابة ضربات قوية من مطرقة ثقيلة تصيب قلبي فأختل توازني وانسابت دموعي وجال بخاطري كل ما حدث فأكتشفت أنني لم أخبرها قط بحبي لها ولكني كنت سجانها بحصاري عليها ، كنت الطوق الذي خنقها فخلعته ورمته بعيدا وأدركت خطئي وإنني ظلمتها عمر طويل ووجدت نفسي بدون تفكير أصيح بأن تأخذ كليتي .
فذهبنا جميعا الى إحدى المستشفيات الخاصة التي ترقد فيها ودخلت عليها فنظرت لي مبتسمة وقد زبل وجهها ومدت لي يدها كي تصافحني فصافحتها ، ودمعت عيناي وأخبرتني بأنها أرادت رؤيتي منذ زمن ولكنها كانت خائفة من ردة فعلي فأخبرتها بأسفي وطلبت منها مسامحتي .
عندما أخبرنا طبيبها أن التحاليل التي أجريتها مطابقة لحالة ابنة عمي فرحت كثيرا وكان هذا الْيَوْمَ كأنه العيد لنا جميعا وبعد عدة أيام تم اعدادنا لإجراء العملية ، وعندما نمت الى جوارها بغرفة العمليات نظرت لي وابتسمت بأمتنان فمددت يدي حتى لامست يدها فأمسكت بها وضغطت عليها برفق ثم غبت عن الوعي ،
عندما تم إفاقتي من تأثير البنج بحثت عنها ولكني لم أجدها و لم أَجِد حولي أحد من أهلي فأعتقدت بأنهم ولابد أن يكونوا معها وبعد دقائق دخل أبي ومن بعده زوجتي و أمي وكانوا يرتدون ثيابا سوداء و جلس أبي إلى جواري فسألته عنها فلم يجيب و أنهمرت دموعه في صمت .