بسمة حجازي تكتب.هروب من الموت إلى الموت
فى قلب مأساة غرق مركب الهجرة غير الشرعية أمام سواحل رشيد، خرج أحد الناجين ليعلن لأهله أنه سيحاول الهروب مرة أخرى عبر البحر بنفس الطريقة، رغم علمه بأن احتمالات موته أكبر كثيرا من احتمالات وصوله إلى شواطئ أوربا، فلماذا يفضل هذا الشاب الموت على البقاء فى بلده؟ لماذا لم تهزه أو تغير قناعاته حادث غرق العشرات فى تجربته المريرة ونجاته بمعجزة؟ هل الموعودون بالنجاة فى هذه الرحلات الخطرة وغير الشرعية تقذفهم أمواج النجاة على شواطئ رمالها من ذهب وأحجارها من ياقوت فيغرفون من الكنز سنوات ثم يعودون؟ أم أن الأمر يتعلق بمعتقد سياسى يدفع المهاجرين إلى ترك بلادهم خوفا من القتل على الهوية مثلا أو الاعتقال العشوائى لسنوات فى معسكرات مثل جوانتانمو وأبو غريب؟.
لا المهاجرون الذين يفضلون الموت على البقاء فى بلادهم سيغرفون الذهب واليوروهات من شواطئ أوروبا التى تطرد وتطارد الفارين واللاجئين إليها، وليسوا كذلك هاربين من القتل والاعتقال فى بلادهم مما يجعلهم يفضلون المخاطرة مع الأمل على البقاء فى وطنهم، لكنها ثقافة النموذج السائد فى منطقة جغرافية محددة تشمل البحيرة ورشيد وكفر الشيخ والإسكندرية، تلك المنطقة المطلة على البحر المتوسط التى ظلت لسنوات تستقبل ما يأتى به البحر من مهاجرين وفارين يبحثون عن الأمن فى مصر، حتى أصبح الوضع معكوسا فى العقود الأربعة الأخيرة بفعل الثقافة الجديدة.
تلك الثقافة الجديدة فى منطقة ساحل المتوسط باستثناء دمياط تقوم على تهريب الصبيان فى سن الرابعة عشرة إلى أوروبا وتحديدا إلى جنوب إيطاليا وهناك يكبر ويستقر ويعمل عدة سنوات ويحول لأهله اليوروهات للإعاشة ولتمويل رحلات الهجرة عير الشرعية للإخوة والأقارب، وأعرف أسرا فى البحيرة ورشيد فقدت شابين من أربعة أو شابا من ثلاثة أو ثلاثة من أربعة فى رحلات الموت هذه لكن الآخرين واصلوا الطريق ونجحوا فى الهجرة وتوفير الأموال والعودة بمستوى اجتماعى أعلى من شباب القرية أو الحى، وهذا العائد يقدم النموذج الثقافى والاجتماعى الذى لا يمكن مقاومته بالتوعية ولا بالمناشدة ولا بتجارب النجاح فى الداخل، فالعائد بعشرات الآلاف من اليوروهات يقلب حياة أسرته ومحيطه رأسا على عقب، يهدم بيت العائلة المتواضع ويبنيه عمارة ويتقدم لخطبة أجمل الفتيات فى قريته أو منطقته ويتحدث عن تجاربه وفتوحاته فى إيطاليا، فكيف يمكن إيقاف إغراء هذا النموذج أمام الشباب الصغير والعائلات المتطلعة ونحن نعيش عالما استهلاكيا ماديا من الألف إلى الياء؟
وللحديث بقية