حاسس بالحزن ؟!..إلبس خوذة بيضاء
بسمة حجازي
بينما ننشغل فى خلافاتنا ومشاداتنا على مواقع التواصل الاجتماعى ويتملكنا اليأس والضيق بسبب أزماتنا الوطنية والشخصية ، كانوا هم هناك يبثون الحياة فى مواطن الموت ، يحفرون بأياديهم وأظافرهم ثقوبا فى حوائط قاسية ليتسلل النور والهواء والحياة إلى أجساد المحتجزين تحت أنقاض القصف، لا يعبأون بأصوات الصواريخ ونيران المدافع ،ولا تحميهم سوى خوذة بيضاء تحيط برؤوسهم، تعزلهم وتحميهم من وساخات السياسة وأطماعها ، تحفظ إنسانيتهم فينشرون بذور الحياة فى أشرس معاقل الموت .
هناك فى سوريا حيث الموت يرفرف بجناحيه ويسحق أجساد الأبرياء تحت الأنقاض قرر متطوعو الخوذة البيضاء أن يبحثوا عن الحياة بين جنبات الموت ، أن يتركوا معارك السياسة وأوحالها محاولين إنقاذ الأرواح البريئة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.
مجموعة من الشباب من مهن مختلفة قرروا عام 2013 إنقاذ الأرواح فى سوريا ، حيث تنعدم الخدمات وتختفى وسائل الإنقاذ والإسعاف، جمعتهم فكرة إنسانية واحدة لا تنظر إلى دين أو عرق أو فكر سياسى، اتخذوا من الآية الكريمة من “أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” شعارا ، ومن الخوذة البيضاء علامة تميزهم، ينتشرون فى الأحياء السورية المنكوبة، لا يعبأون بمخاطر القصف أثناء إنقاذهم للضحايا ، أو طلقات القناصة أثناء عمليات الإنقاذ ، أنقذوا آلاف الضحايا من جميع أطراف النزاع وصل عددهم إلى أكثر من 62 ألف شخص .
كان لهم الفضل فى إنقاذ مئات الأطفال الذين أبكت صورهم العالم .
ظل خالد أحد هؤلاء المتطوعين يحفر بأظافره لأكثر من 12 ساعة لإزالة الركام الجاثم فوق صدر الرضيع محمود الذى لا يتجاوز عمره شهران ، حاول أن يسبق الموت كى يصل قبله للرضيع الذى يأن تحت الأنقاض، وما أن ظهر طرف ثوب الرضيع حتى ازداد حماس خالد، إلى أن حقق هدفه وانتشل محمود من بين الأنقاض، بكى خالد واحتضن محمود وهرول به إلى المستشفى ، وقد كست الدماء والتراب وجه الرضيع، بينما غمرت الدموع وجه منقذه ، وهى الصورة التى تداولتها وسائل الإعلام.
ظل خالد ينقذ عشرات الضحايا حتى لقى حتفه بعد عامين لينضم إلى 142 من متطوعى الخوذ البيضاء الذين استشهدوا أثناء عمليات الإنقاذ تاركا زوجة وطفلين.
كان لمتطوعى الخوذة البيضاء الفضل فى إنقاذ الطفل عمران دقنيش الذى هزت صورته العالم، وهو يمسح الدماء عن رأسه داخل سيارة الإسعاف، وذاع صيتهم فى العالم حتى منحتهم المنظمة السويدية “رايت لايفليهود” جائزتها السنوية لحقوق الإنسان التى تعد بمثابة “نوبل بديلة” وتم ترشيحهم لجائزة نوبل للسلام .
ودفعت بطولات متطوعو الخوذة البيضاء مجلة التايم الامريكية أن تكتب عنهم وأن تضع الآية القرآنية التى اتخذوها شعارا على غلافها ” من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”، وهكذا يكون المسلم سفيرا للإسلام بأفعال لا شعارات ، وهكذا يخرج النور من قلب الظلام .
لم يكن أصحاب الخوذة البيضاء فقط من اتبعوا هذا المنهج ولكن اتبعه أشخاص أخرون ليسوا عربا ولا مسلمين .
فبينما يموت ألاف الضحايا فى حوادث الهجرة غير الشرعية سواء من اللاجئين السوريين أو من المصريين الباحثين عن فرصة عمل خارج الوطن، فكر متطوعون من النمسا فى تثبيت 1000 منصة إنقاذ فى المياه الدولية بالبحر المتوسط، لتكون طوق نجاة للاجئين، فى حالة الغرق ورفعوا شعار ” إن إنقاذ الأرواح أمر سهل ولكن يجب أن نرغب فى ذلك ” ، وأطلقوا اسم إيلان على أول منصة نسبة إلى الطفل السورى إيلان الذى غرق اثناء الهجرة غير الشرعية إلى أوربا.
كما أزعجت صور ضحايا الهجرة غير الشرعية خبير بريطانى ، فاخترع أنبوبا مطاطيا لمساعدة من يوشكون على الغرق يحتوى على حبال، تسمح للشخص بالتعلق بها وسط أمواج البحر، ويمكن للأنبوب الواحد أن ينقذ حياة 50 شخصا.
لم يكتف أبطال الخوذ البيضاء والمتطوعون الأجانب بالبكاء على الضحايا أو مصمصة الشفاة أو إهدار الطاقات فى الخلافات السياسية والفكرية ، بل توحدوا من أجل الإنسانية، ترجموا طاقة الحزن والغضب إلى أفعال تنقذ البشر.
إذا وصلت إلى أقصى درجات الضيق والحزن بسبب ما نراه يوميا من أحزان وصراعات وانتهاكات وحوادث فاخرج من يأسك وغضبك، اغتسل من نجاسات السياسة وصراعاتها وتطهر بماء الإنسانية ، انفض عن نفسك غبار الاستقطاب واتبع نهج “من أحياها”، ارتدى خوذة بيضاء تحمى رأسك من الصراع وتمنحك قلبا جديدا يتسع للعالم ويسعى لتخفيف ألام المعذبين . لا تقلق فالأمر ليس صعبا يمكنك أن تقوم به حتى وأنت تجلس على مواقع التواصل الاجتماعى ، يمكنك إنقاذ الإنسانية بأفكار وأفعال كما يفعل من يقومون بمبادرات فردية للتخفيف عن الفقراء والمعذبين ، منهم من أسس صفحات للبحث عن الأطفال المفقودين ، ومن يعلنون عن حاجة إنسان للتبرع بالدم ، ويزورون مرضى المستشفيات الحكومية ويتبرعون بمصرفات المدارس لطلبة المدارس الفقراء ، ومن يعلنون عن توافر بطاطين تحمى من لا يجدون سقفا يحميهم من برد الشتاء ، وغيرها من أفكار بسيطة تنقذ البشر وتخفف عنهم وتنقذنا من الغرق فى أوحال الصراع والتمزق ، فارتدى الخوذة البيضاء وارفع شعار من أحياها .